عشرون عامًا تبدو كفيلة لكي تتجرع الصبر وتتذوق الفرح، تسمع فيروز وتسهر على البحر، تتغزل في القمر وتناجي النجم، تُحب إحداهن، وتهجر وتفارق أحيانًا أيضًا، كفيلة بأن تجعل قلبَك ينخلعُ بذكرِ أنثى وقد يفيضُ من العشقِ لمجردِ رؤياها، تعرفُ الشوقَ وتحفظُه، تدرِكُ كلمات أم كلثوم وتناجي الشوقَ معها لتتأكد مما ذكرتهُ هي قبل عقود؛ أنهُ لا أحد يقوى على مسايرةِ الشوقِ ولا عذابِ الشوق ولا يقوى قلبٌ على الصمودِ أمام عذابه.
أنت تتذكرُ بفرحٍ منتش، مسلسلاتِ الأطفال المتحركة؛ تُحبُ كونان وتتعاطفُ معه.. وتطيرُ مع سيارة سابق المسماةِ “ماجنم”، تُحب البلابِلَ التي قد يختلفُ مسماها في بلدِكَ، وتحبُ عهد الأصدقاء وريمي، تشدُّكَ عاطفةُ الأخِ الأكبرِ في أنا وأخي، وتبكي لحزنٍ صديقٍ رافقته لمئاتِ الحلقات، تُشجع الكابتن ماجِد رُغم أنهُ لا يخسر، وتتابعُ بكار بشغفٍ دؤوبٍ وتفتقدهُ في غير رمضان.
تذكرُ أنك فيما مضى كُنتَ تحملُ هم واجبِ الحسابِ ومراجعة العلوم، ترجو ألا يسألك المدرسِ عن دفترِ الحصص القصيرة، ولا مراجعاتِ الدروسِ الفائتة، ترى في أبناءِ العشرينِ كبارًا تحسُدهم على راحةِ بالهم، وسهرهم في المقاهي، وإجتماعِ الإناث حولَ وسيمهم، ترى فيه شاربًا قد خُط، أو ذقنًا قد اكتملت فأكسبت وجهه من البهاءِ ما أكسبته، كنتَ تحسبُ أنهُ كبيرٌ بلا مِراء، تهابُ المُزاحَ مع أحدهم لقوتِه وفتولِ عضلاته، إلى أن أصبح عُمركَ عشرينًا وبضعا.. وما زلتَ تعد نفسك ضمن صبيانِ المدرسةِ المشاغبين؛ فتًى شقيًا لم يكبر بعد ولا يريد.

أنا عشريني صغير، أحبُ العالَمَ والناس.. يتنازعُ الفرحُ في داخلي وبعض الحُزن، أفرحُ بجميلٍ صغير حققته، وأحزن لأن مُرادًا لم أنله، أفخرُ بمن أعرفُ من دوائرِ الأصدقاء والأهل، أفرحُ بجلسةٍ على واحدةٍ من مقاهي وسط المدينة رفقة أصدقائي، أحلُم بليلةٍ مع الجميل على شاطئ النيل؛ وليتَ الزمان يُمهلنا، أحب شقيَّتي الجميلة التي غزلها خيالي، أحب قراءةَ الكُتبِ ومسامرة الورق، أحب بلادي وأحلمُ بيومٍ يهنأُ فيهِ شعبُها، أحب العالَم وأحملُ شيئًا من همه، أغارُ على القُدسِ من غاشمٍ محتل، وأحلمُ أن أعيشَ لليومِ الذي أقف فيه أمام قصر الحمراء، وأتمشى في حدائق غرناط وأقرأ في مكتبة قُرطبة، أنتظرُ تمام الثلاثين لأرى ملامحي التي تبدلت عن أعوامٍ مضت.
في العشرين، أدركتُ تمام الإدراكِ أن العُمرَ رقم، وأن التاريخ لن ولم يأبه لأحد، هو يمرُ دونَ توقف.. يحتسبُ الأيام بمجراها، لا توجدُ إعاداتٌ أو فواصلُ إعلانية، أدركتُ أن انتظارَ القِطارِ حُمق، والركوبَ فيه دِعة، والإستسلام لسرعته مُضحِك، عَلمتُ أن رحلةَ أبي في تربيتي لم تكن يومًا سهلة، وأن في العالمِ من السوء ما يجعلني أبكي بشكل متواصلٍ حتى أعود، لأحمل كراستي الزرقاء إلى حصة اللغة العربية، وأنّ فيه من المُضحكاتِ ما يجعلني أضحكُ عشرينًا أخرى، تعلمتُ أنه لا تفاوُضَ في الحُقوق، ولا تَنازُلَ في المشاعر، وأن الغَد سيلعَن كُل مُفرطٍ فيه، أيقنتُ أن الإنسان قضية، وحفظتُ أن ليس للإنسانِ إلا ما سعى، وأن همومَ الطفولةِ لن تعود، وأن أحزانِ الكِبرِ ستمضي، وأن البكاءَ لم يعد سهلًا كما كان، أن عُمرَ الزهورِ أصبحَ ماضٍ، وصارَ الواجبُ أن تُرعى الزهورُ لكيلا تُقطف.